فصل: تفسير الآيات (42- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (42- 46):

{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} واسم كان مضمر، أي: لو كان ما تدعونهم إليه عرضا قريبا، أي: غنيمة قريبة المتناول، {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي قريبا هينا، {لاتَّبَعُوك} لخرجوا معك، {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي: المسافة، والشقة: السفر البعيد، لأنه يشق على الإنسان. وقيل: الشقة الغاية التي يقصدونها، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} يعني باليمين الكاذبة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في أيمانهم وإيمانهم، لأنهم كانوا مستطيعين.
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} قال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من أسارى بدر، فعاتبه الله كما تسمعون.
قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب.
وقيل: إن الله عز وجل وقَّره ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده: عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك ألا زرتني. وقيل معناه: أدام الله لك العفو.
{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} أي: في التخلف عنك {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في أعذارهم، {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} فيها، أي: تعلم من لا عذر له. قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ.
{لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي: لا يستأذنك في التخلف، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} أي شكت ونافقت، {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} متحيرين.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} إلى الغزو، {لأعَدُّوا لَهُ} أي: لهيؤوا له {عُدَّةً} أهبة وقوة من السلاح والكراع، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} خروجهم، {فَثَبَّطَهُمْ} منعهم وحبسهم عن الخروج، {وَقِيلَ اقْعُدُوا} في بيوتكم، {مَعَ الْقَاعِدِينَ} يعني: مع المرضى والزَّمْنى. وقيل: مع النسوان والصبيان. قوله عز وجل: {وَقِيلَ} أي: قال بعضهم لبعض: اقعدوا. وقيل: أوحى إلى قلوبهم وألهموا أسباب الخذلان.

.تفسير الآيات (47- 54):

{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجهاد لغزوة تبوك، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي على ذي جدة أسفل من ثنية الوداع، ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم {لَوْ خَرَجُوا} يعني المنافقين {فيكم} أي معكم، {مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} أي: فسادا وشرا. ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر، {وَلأوْضَعُوا} أسرعوا، {خِلالَكُم} وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض. وقيل: {وَلأوْضَعُوا خِلالَكُم} أي: أسرعوا فيما يخلّ بكم. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جُمع لكم كذا وكذا، وإنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك. وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني: الْعَيْبَ والشرَّ. وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيه بُغَاءً إذا الْتَمَسْتُه له، يعني: بغيت له.
{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} قال مجاهد: معناه وفيكم محبون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس. وقال قتادة: معناه وفيكم مطيعون لهم، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي: طلبوا صدَّ أصحابك عن الدين وردَّهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. {وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ} وأجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي، بالتخذيل عنك وتشتيت أمرك، {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} النصر والظفر، {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} دين الله، {وَهُمْ كَارِهُونَ}.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} نزلت في جَدِّ بن قَيْسٍ المنافق، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك قال: يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر؟ يعني الروم، تتخذ منهم سراري ووصفاء، فقال جد: يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، ائْذَنْ لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينُك بمالي. قال ابن عباس: اعتلَّ جد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أذنت لك فأنزل الله عز وجل: {ومنهم} يعني من المنافقين {مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} في التخلف {وَلا تَفْتِنِّي} ببنات الأصفر. قال قتادة: ولا تؤثمني: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمْرَ الله وأمر رسوله، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} مطبقة بهم وجامعة لهم فيها.
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} نصرة وغنيمة، {تسؤهم} تُحزنُهم، يعني: المنافقين، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} قتل وهزيمة، {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} حَذَرَنا، أي: أخذنا بالحزم في القعود عن الغزو، {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل هذه المصيبة، {وَيَتَوَلَّوْا} ويدبروا {وَهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون بما نالك من المصيبة.
{قُلْ} لهم يا محمد {لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي: علينا في اللوح المحفوظ {هُوَ مَوْلانَا} ناصرنا وحافظنا. وقال الكلبي: هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} تنتظرون بنا أيها المنافقون، {إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} إما النصر والغنيمة أو الشهادة والمغفرة. وروينا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يُخْرِجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته: أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة».
قوله عز وجل: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوءتين إما: {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} فيهلككم كما أهلك الأمم الخالية، {أَوْ بِأَيْدِينَا} أي: بأيدي المؤمنين إن أظهرتم ما في قلوبكم، {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} قال الحسن: فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال مَنْ خالفه.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أمر بمعنى الشرط والجزاء، أي: إن أنفقتم طوعا أو كرها. نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود، قال أعينكم بمالي، يقول: إن أنفقتم طوعا أو كرها {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ} أي: لأنكم، {كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ} قرأ حمزة والكسائي: {يقبل} بالياء لتقدم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لأن الفعل مسند إلى جمع مؤنث وهو النفقات، فأنث الفعل ليعلم أن الفاعل مؤنث، {نَفَقَاتُهُمْ} صدقاتهم، {إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه} أي: المانع من قبول نفقاتهم كفرهم، {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} متثاقلون لأنهم لا يرجون على أدائها ثوابا، ولا يخافون على تركها عقابا، فإن قيل: كيف ذم الكسل في الصلاة ولا صلاة لهم أصلا؟ قيل: الذم واقع على الكفر الذي يبعث على الكسل، فإن الكفر مكسل، والإيمان منشط، {وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما.

.تفسير الآيات (55- 57):

{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}
{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} والإعجاب هو السرور بما يتعجب منه، يقول: لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد لأن العبد إذا كان من الله في استدراج كثَّر الله ماله وولده، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فإن قيل: أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا؟
قيل: قال مجاهد وقتادة: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقيل: التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد.
وقال الحسن: يعذبهم بها في الدنيا بأخذ الزكاة منها والنفقة في سبيل الله. وقيل: يعذبهم بالتعب في جمعه، والوجل في حفظه، والكره في إنفاقه، والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده، ثم يُقْدم على مَلِك لا يعذره. {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ} أي: تخرج، {وَهُمْ كَافِرُونَ} أي: يموتون على الكفر.
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} أي: على دينكم، {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون أن يظهروا ما هم عليه.
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} حرزا وحصنا ومعقلا. وقال عطاء: مهربا. وقيل: قوما يأمنون فيهم. {أَوْ مَغَارَاتٍ} غِيرانا في الجبال، جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه، أي يستتر. وقال عطاء: سراديب. {أَوْ مُدَّخَلا} موضع دخول فيه، وأصل: مدتخل مفتعل، من أدخل يدخل. قال مجاهد: محرزا. وقال قتادة: سربا. وقال الكلبي: نفقا في الأرض كنفق اليربوع. وقال الحسن: وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ: {مَدْخلا} بفتح الميم وتخفيف الدال، وكذلك قرأ يعقوب، {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} لأدبروا إليه هربا منكم، {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون في إباء ونفور لا يرد وجوههم شيء. ومعنى الآية: أنهم لو يجدون مخلصا منكم ومهربا لفارقوكم.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)}
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية نزلت في ذي الخويصرة التميمي، واسمه حرقوص بن زهير، أصل الخوارج.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسمًا فينا، أتاه ذو الخُوَيْصرة، وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول اعدل، فقال: «ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل»، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ائذنْ لي فيه فأضرب عنقه، فقال له: «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يَمْرُقُ السهم من الرَّمِيَّة ينظر إلى نَصْلِه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رِصَافِهِ فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه، وهو قدْحُه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قُذَذِهِ فلا يوجد فيه شيء، قد سَبَقَ الفَرْث والدم آيتهم: رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فُرْقَةٍ من الناس». قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فَالْتُمِسَ، فَوُجِدَ، فَأُتِيَ به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين يقال له أبو الْجَوَّاظِ: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تقسم بالسوية، فأنزل الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي: يعيبك في أمرها وتفريقها ويطعن عليك فيها. يقال: لمزه وهمزه، أي: عابه، يعني أن المنافقين كانوا يقولون إن محمدا لا يعطي إلا من أحب. وقرأ يعقوب {يَلْمِزُكَ} حيث كان. وقال مجاهد: يلمزك أي: يروزك يعني: يختبرك. {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} قيل: إن أعطوا كثيرا فرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا.

.تفسير الآيات (59- 60):

{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي: قنعوا بما قسم لهم الله ورسوله {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} كافينا الله، {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} ما نحتاج إليه {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس. وجواب لو محذوف أي: لكان خيرا لهم وأعود عليهم.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية، بيَّن الله تعالى في هذه الآية أهل سهمان الصدقات وجعلها لثمانية أصناف. وروي عن زياد بن الحارث الصُدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل وقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك».
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} فأحد أصناف الصدقة: الفقراء، والثاني: المساكين.
واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة والزهري: الفقير الذي لا يسأل، والمسكين: الذي يسأل.
وقال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة، ولكن من أنقى نفسه وثيابه لا يقدر على شيء، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
وقال قتادة: الفقير: المحتاج الزَّمِنُ، والمسكين: الصحيح المحتاج.
وروي عن عكرمة أنه قال: الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب.
وقال الشافعي: الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا، زَمِنا كان أو غير زَمِن، والمسكين من كال له مال أو حرفة ولا يغنيه، سائلا أو غير سائل. فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال: {أما السفينة فكانت لمساكين} [الكهف- 79] أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة.
وعند أصحاب الرأي: الفقير أحسن حالا من المسكين.
وقال القتيبي: الفقير: الذي له البُلْغَة من العيش، والمسكين: الذي لا شيء له.
وقيل: الفقير من له المسكن والخادم، والمسكين من لا ملك له. وقالوا: كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره، قال الله تعالى: {أنتم الفقراء إلى الله} [غافر- 15]، والمسكين المحتاج إلى كل شيء ألا ترى كيف حضَّ على إطعامه، وجعل طعام الكفارة له ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سدّ الجوعة.
وقال إبراهيم النخعي: الفقراء هم المهاجرون، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين.
وفي الجملة: الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال، فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره، والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا الربيع، أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام، يعني: ابن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله فسألاه عن الصدقة فصعَّد فيهما وصوَّب فقال: «إن شئتما أعطيتكما ولاحظّ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب».
واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة: فقال الأكثرون: حدُّه أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة، وهو قول مالك والشافعي.
وقال أصحاب الرأي: حدُّه أن يملك مائتي درهم.
وقال قوم: من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة، لما روينا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح»، قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: «خمسون درهما أو قيمتها من الذهب». وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقالوا لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما. وقيل: أربعون درهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا».
قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها، فيعطون من مال الصدقة، فقراء كانوا أو أغنياء، فيعطون أجر مثل عملهم.
وقال الضحاك ومجاهد: لهم الثمن من الصدقة.
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم: المؤلفة قلوبهم، وهم قسمان: قسم مسلمون، وقسم كفار. فأما المسلمون: فقسمان، قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفًا كما أعطى عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس، أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام، وهم شرفاء في قومهم مثل: عدي بن حاتم، والزِّبْرِقان بن بدر، فكان يعطيهم تألفًا لقومهم، وترغيبًا لأمثالهم في الإسلام، فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة، والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات.
والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين: أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع مُتَنَاطٍ لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون، إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم، فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة. وقيل: من سهم المؤلفة. ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام، فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات. وقيل: من سهم سبيل الله.
روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا.
وأما الكفار من المؤلفة: فهو مَنْ يُخشى شره منهم، أو يرجى إسلامه، فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرًا من شره، أو يعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس، كما أعطى صفوان بن أمية لِمَا يرى من ميله إلى الإسلام، أما اليوم فقد أعزَّ الله الإسلام فله الحمد، وأغناه أن يُتَأَلَّف عليه رجال، فلا يُعطى مشرك تألفًا بحال، وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط. روي ذلك عن عكرمة، وهو قول الشعبي، وبه قال مالك والثوري، وأصحاب الرأي، وإسحاق بن راهويه.
وقال قوم: سهمهم ثابت، يروى ذلك عن الحسن، وهو قول الزهري، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي ثور، وقال أحمد: يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك.
قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} والصنف الخامس: هم الرقاب، وهم المكاتبون، لهم سهم من الصدقة، هذا قول أكثر الفقهاء، وبه قال سعيد بن جبير، والنخعي، والزهري، والليث بن سعد، والشافعي. وقال جماعة: يشترى بسهم الرقاب عبيد فيُعتقون. وهذا قول الحسن، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.
قوله تعالى: {وَالْغَارِمِين} الصنف السادس هم: الغارمون، وهم قسمان: قسم دانوا لأنفسهم في غير معصيته، فإنهم يُعْطَون من الصدقة إذا لم يكن لهم من المال ما يفي بديونهم، فإن كان عندهم وفاء فلا يُعْطَون، وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فإنهم يُعْطَون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم، وإن كانوا أغنياء.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنبأنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المساكين فأهدى المسكين للغني، أو لعامل عليها».
ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه.
أما من كان دَيْنه في معصية فلا يُدفع إليه.
وقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أراد بها: الغزاة، فلهم سهم من الصدقة، يُعطَون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو، وما يستعينون به على أمر الغزو من: النفقة، والكسوة، والسلاح، والحمولة، وإن كانوا أغنياء، ولا يُعطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم.
وقال قوم: يجوز أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج. ويُروى ذلك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وأحمد، وإسحاق.
قوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} الصنف الثامن: هم أبناء السبيل، فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يُعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة، سواء كان له في البلد المنتقل إليه مال أو لم يكن.
وقال قتادة: ابن السبيل هو الضيف.
وقال فقهاء العراق: ابن السبيل: الحاجّ المنقطع.
قوله تعالى: {فَرِيضَةً} أي: واجبةً {مِنَ اللَّهِ} وهو نصب على القطع، وقيل: على المصدر، أي: فرض الله هذه الأشياء فريضة. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
اختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات، وفي جواز صرفها إلى بعض الأصناف:
فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف، وهو قول عكرمة، وبه قال الشافعي، قال: يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة، الذين سُهْمانهم ثابتة قسمة على السواء، لأن سهم المؤلفة ساقط، وسهم العامل إذا قسم بنفسه، ثم حصة كل صنف منهم لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منهم ثلاثة أو أكثر، فلو فاوت بين أولئك الثلاث يجوز، فإن لم يوجد من بعض الأصناف إلا واحد صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حدِّ الاستحقاق، فإن انتهت حاجته وفضل شيء ردَّه إلى الباقين.
وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف، أو إلى شخص واحد منهم يجوز، وإنما سمَّى الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجابا لقسمها بينهم جميعا. وهو قول عمر، وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وبه قال أحمد، قال: يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى.
وقال إبراهيم: إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسَّمه على الأصناف، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد.
وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويُقَدَّم الأوْلى فالأوْلَى من أهل الخُلَّة والحاجة، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدَّمهم، وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم.
وكل من دُفِعَ إليه شيء من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق، فلا يزيد الفقير على قدر غناه، فإذا حصل أدنى اسم الغنى لا يُعطى بعده، فإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته: فيعطى قدر ما يحصل به آلة حرفته، ولا يزاد العامل على أجر عمله، والمُكاتب على قدر ما يُعتق به، وللغريم على قدر دينه، وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسلاح، ولابن السبيل على قدر إتيانه مقصده أو مآله.
واختلفوا في نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر، مع وجود المستحقين فيه: فكرهه أكثر أهل العلم، لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، حدثنا زكريا بن إسحاق المكي، حدثنا يحيى بن عبد الله بن الصيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن فقال: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب فادْعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فَأَعْلِمْهُمْ أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فَأَعْلِمْهُمْ أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب».
فهذا يدل على أن صدقة أغنياء كل قوم تُردّ على فقراء ذلك القوم.
واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر أُدِّي مع الكراهة، وسقط الفرض عن ذمته، إلا ما حُكي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه ردّ صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان.